استسلام كيكل- نصر للجيش أم معضلة للعدالة في السودان؟

إن استسلام اللواء أبو عاقلة كيكل، القائد البارز في قوات الدعم السريع بولاية الجزيرة، للجيش السوداني، قد أثار صدى واسعًا واهتمامًا بالغًا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
يُعد هذا الحدث بمثابة تطور محوري، يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية في سياق الأحداث المتسارعة التي تشهدها الحرب الدائرة في السودان. وتجدر الإشارة إلى أن الحدث الأبرز خلال الفترة نفسها تمثل في استعادة الجيش السوداني السيطرة على منطقة جبل موية الاستراتيجية، والتي كانت خاضعة لقبضة قوات الدعم السريع، علمًا بأن الأخيرة قد اتهمت مصر بقصف قواتها في هذه المنطقة تحديدًا.
إن استسلام كيكل للقوات المسلحة السودانية، والظروف المحيطة به، والتداعيات الناجمة عنه على المشهد العسكري في وسط السودان، والذي شهد تحولًا ملحوظًا في ميزان القوى لصالح الجيش السوداني، قد أثار نقاشًا مستفيضًا وجدلًا واسعًا في أوساط الرأي العام السوداني بشكل خاص. كما أثار هذا الحدث الكثير من اللغط والتشويش داخل أروقة كل من قوات الدعم السريع من جهة، والجيش والحكومة السودانية من جهة أخرى.
من جانبها، سارعت قوات الدعم السريع، على لسان مستشاريها السياسيين وما تبقى من قادتها العسكريين، إلى وصم قائد قواتها بولاية الجزيرة (السابق) بالخيانة، معتبرة إياه "بائعًا للقضية". بل ذهب البعض إلى القول بأنه كان عنصرًا مندسًا في صفوف قوات الدعم السريع، وأنه عمل طوال الوقت لصالح الجيش السوداني.
في المقابل، أصدر الجيش السوداني بيانًا رسميًا أعلن فيه أن قائد قوات الدعم السريع بولاية الجزيرة ومجموعة من قواته قد انحازوا إلى جانب الحق والوطن، وأنهم غادروا صفوف التمرد والقتال ليقفوا جنبًا إلى جنب مع قوات الجيش.
وقد رحب البيان بهذه الخطوة، واصفًا إياها بالشجاعة، ومؤكدًا أن الأبواب لا تزال مفتوحة أمام كل من يرغب في الانحياز إلى صف الوطن وقواته المسلحة. وأشار البيان إلى تأكيد رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح البرهان على العفو عن أي متمرّد ينحاز إلى جانب الوطن، شريطة أن يبلغ أقرب قيادة عسكرية في أي منطقة من مناطق السودان.
ومع ذلك، فقد أحدث هذا الحدث ارتباكًا واسعًا في أوساط الرأي العام السوداني، وكان له تأثير متباين في الأوساط الشعبية وبين قطاعات واسعة من الجمهور السوداني. فقد أشاع هذا الحدث قدرًا كبيرًا من الفرحة والارتياح لدى الشعب السوداني عمومًا، ولدى مواطني ولاية الجزيرة على وجه الخصوص، وذلك لأنه يمثل خطوة نحو وضع حد لمعاناتهم جراء الانتهاكات والفظائع وجرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بحقهم منذ دخولها الولاية في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي.
علاوة على ذلك، فإن استسلام اللواء كيكل للجيش يحمل أهمية عسكرية كبيرة، حيث يمثل هزيمة مادية ومعنوية لقوات الدعم السريع، وضربة قاصمة توجه إليها، والتي لم تتعاف منها بعد من هزيمتها النكراء – التي اعترف بها قائدها (حميدتي) شخصيًا – أمام الجيش السوداني في منطقة جبل موية الاستراتيجية.
كما أن استسلام كيكل يُعد خسارة فادحة للرصيد السياسي لقوات الدعم السريع، وجناحها المدني المتمثل في (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) المعروفة اختصارًا بـ (تقدم). إذ أن خطاب هذه القوى ظل يدّعي تمثيل الشعب السوداني وجماهير ولاية الجزيرة، زاعمًا أنه يمتلك قواعد عريضة في هذه الولاية المهمة، وأن هذه القواعد الجماهيرية تشكل له السند الشرعي في مسيرته نحو استعادة الحكم المدني، وجلب الديمقراطية والسلام والحرية والعدالة.
وبالرغم من الشعور العام بالفرح والابتهاج الذي ساد الأوساط السودانية عقب نبأ استسلام كيكل، فإن هذا الحدث قد أثار تباينًا في ردود الفعل تجاه ما يجب أن يكون عليه الوضع في اليوم التالي للاستسلام، وخاصة فيما يتعلق بمصير كيكل نفسه.
وقد بدأ هذا الاختلاف في التنامي منذ الساعات الأولى للاستسلام، واتخذ شكلًا تصاعديًا ينذر بالتحول من مجرد "اختلاف" في وجهات النظر إلى "خلاف" حقيقي، بل وقد يتبلور في نهاية المطاف إلى "انشقاق" بين فئتين من الناس:
- الفئة الأولى ترى أن كيكل رجل مراوغ ومخادع، وأنه أقدم على إعلان استسلامه فقط لينجو بنفسه من هزيمة وشيكة كانت تلوح في الأفق بعد استعادة الجيش السيطرة على جبل موية، وإلحاقه هزيمة كبيرة بقوات الدعم السريع، وتقدمه السريع في الميدان، وتطويقه الكامل لولاية الجزيرة، بحيث لم يترك له أي فرصة للهروب أو النجاة، ممّا دفعه إلى إعلان الاستسلام للخروج من هذا المأزق الحرج.
وتعتقد هذه الفئة أن كيكل غير صادق في نواياه، وأنه يسعى فقط للإفلات من العقاب بسبب الجرائم الشنيعة التي ارتكبتها قواته على مدى عام تقريبًا، وأنه يجب أن يُحاكم كمجرم حرب، وليس أن يتم العفو عنه والاحتفاء به وتصويره كبطل قومي.
ويرى هؤلاء أن الحق الخاص مقدم على الحق العام، وأن الحكومة لا تملك الحق في العفو عن الحقوق الخاصة. فهناك ممتلكات سُلبت ونُهبت، وأعراض انتهكت ودُنست، وأرواح أُزهقت ظلمًا وعدوانًا، وأناس هُجروا وشُردوا ولجؤوا إلى أماكن أخرى، ويعيشون في أوضاع معيشية قاسية ومزرية في الداخل والخارج بسبب أفعال كيكل، وبالتالي لا بدّ من القصاص منه بتقديمه إلى العدالة.
- في المقابل، ترى فئة أخرى، تتقدمها الحكومة السودانية، أن استسلام كيكل يُعتبر نصرًا عظيمًا ومؤزرًا للجيش، لأنه أحدث شرخًا عميقًا في صفوف قوات الدعم السريع، وشكل ضربة قاصمة لها، ليس فقط في ولاية الجزيرة، وإنما في جميع الولايات الأخرى التي تتواجد فيها هذه القوات.
كما أن استسلام كيكل وضع قوات الدعم السريع على حافة الهاوية، وقرب الهزيمة والانهيار الشامل على مستوى السودان بأكمله. وقد ساهم هذا الاستسلام في توفير وحقن الكثير من الدماء التي كان من المحتمل أن تسيل في معركة تحرير ولاية الجزيرة.
وترى هذه الفئة أن الفريق البرهان، بوصفه رأس الدولة والقائد العام للجيش، لديه الحق الكامل في إصدار عفو عام، بحكم منصبه وبناءً على تقديراته كقائد عسكري ورئيس شرعي للبلاد، إذا رأى أن هذا العفو سيساهم في تحقيق المصلحة العامة ودفع الضرر، وأن هذا العفو يندرج ضمن نطاق تخطيطه للعمليات الحربية والاستخباراتية وإدارته للأوضاع السياسية في البلاد.
وفي ظل احتدام الجدل والنقاش حول حادثة الاستسلام، والانقسام الواضح حولها، وقوة وحجية مبررات كلتا الفئتين – وهو وضع معقد ومربك ومحير ويمثل معضلة حقيقية – فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو كيفية الخروج الآمن من هذا المأزق الذي قد يتعقد أكثر، ممّا قد يؤثر سلبًا على الجبهة الداخلية في السودان المساندة للجيش، والتي ظلت متماسكة ومؤتلفة بقوة في مواجهة قوات الدعم السريع منذ بداية الحرب، ممّا قد يؤدي إلى تصدعها، وهي على وشك تحقيق النصر!
أرى أن المخرج الوحيد من هذه الورطة التي وجد الجميع نفسه فيها بين عشية وضحاها يكمن في يد كيكل نفسه!
نعم، كيكل وحده هو القادر على حل هذه المعضلة. وكما يقول المثل الشعبي السوداني "الشوكة بمرقوها بي دربها" [مثل يشبه المثل العربي: "وداوني بالتي كانت هي الداء" ويعني أن حل المشكلة يقتضي العودة لجذورها التي سببتها] أو المثل الشعبي السوداني الأشهر "يحلها الشربكا" [ويعني: أن من عقد عقدة، فمسؤوليته أن يحلها].
كيكل يمتلك القدرة على حل هذه العقدة، وهو الآن على المحك، وأمامه فرصة سانحة لإثبات صدق نواياه وإخلاصه لوطنه، وتسجيل اسمه بأحرف من نور في سجل تاريخ السودان، ليمحو بذلك ما اقترفته يداه من أفعال في حق أهله وبلاده. فالقادة العظام دائمًا ما يقدمون المصلحة العامة على مصالحهم الشخصية.
أمام كيكل أن يعلن اليوم قبل الغد أنه يقدم نفسه طوعًا واختيارًا إلى أجهزة العدالة، ليخضع للمحاكمة وفق الإجراءات القانونية أمام القضاء السوداني. وبذلك يكون قد أثبت صدق نواياه أولًا، وطهر نفسه من حقوق ومظالم الناس ثانيًا، والأهم من ذلك، وهو ما يتعلق بمستقبل بلاده، منع تصدع الجبهة الداخلية الذي قد يتطور – بسبب الخلاف حول استسلامه – إلى مواجهات أهلية لا يرغب فيها أحد ولا تحمد عقباها.
فلتفعلها يا كيكل لتخلد اسمك في سجل العظماء!